دهب
مطعم نرجس
Morocco travel
المركز الدولي للأشعة بطنجة

طـنجة القـديمة .. أسرارها و عوالم غامضة و ثقافة عالمية

قناة طنجة الكبرى / هسبريس
أبواب بعض المدن موصدة، بالرغم من أنها قد تبدو في ظاهرها مشرعة للزائرين على مصراعيها، ومفاتيحها، عكس ما قد نعتقد، ليست مُعـَلقة “على الغارب” كما يقول مثلنا المغربي الدّارج.. لذلك، لا بد من البحث عن أحد حاملي هذه المفاتيح، كي تتمكن من ولوج هذه الأبواب وتكتشف أسرارها وكنوزها، وإلا ستظل زائرًا عابرًا مَهما تواتـَرت زياراتك لها وتكرَّرت وأخذت فيها من صور!.

في هذه الورقة سنـُحاول التـَّوَغـُّل في عوالم طنجة على كثرتها، والاطلاع على شيء منها، لا إشهارا لمكان أو خدمة لأجندة معينة أو تحيزا إلى مكان على حساب آخر؛ لكن اقتفاء لأثر محمد شكري ومحبة لهذه المدينة التي أسِـرَتني كما باقي العالم، وبالتالي رفض كل طرف من القوى الكبرى أن يفرط في نصيبه، فأصبحت عالمية إلى أن رجعت إلى نفسها وإلى مغربيتها سالمة، بالرغم من ما تحمله وإلى الآن من متغيرات دولية في عمرانها، تدل على أن أقوامًا مـَرَّت من هنا، بدءا بمغارة “هرقل” في غربها على المحيط الأطلسي وما تبعها من غموض لا يزال يُغذي أسطورتها القديمة، وما لحقها من غزو أوروبي تحديداً.

طنجة مدينة غامضة

طنجة واحدة من هذه المدن الغامضة، زُرتها في أكثر من مناسبة، كانت أولاها منذ أربعين سنة تقريبا في رحلة مدرسية، مع ذلك لم أعرف منها إلا شوارعها الرئيسية وساحاتها العامة وشواطئها المشتتة بين البحر والمحيط، فهي لا تبوح لك بكل أسرارها للوهلة الأولى، إذ يلزمك من يحمل أحد مفاتيحها حتى تتمكن من العبور إليها حتى وأنت فيها، هذا المفتاح الذهبي لن يكون إلا الأديب المغربي محمد البغوري، هو وحده دون غيره صاحب القلب الكبير مثل مدينته، عاشق لها، حافظ لأسرارها ومـُدَوِّن لكنوزها المشتتة بين جديد أحياء المدينة وقديمها.

مشاهد من مدينة طـنجة القـديمة .. عوالم غامضة وثقافة عالمية

كان محمد شكري رحمه الله إلى عهد قريب مفتاح طنجة وعرافا لها إلى أن توفاه الله، حفظ شبكة خريطتها وممراتها ومسالك أسواقها القديمة والجديدة، حاناتها وفنادقها ولائحة زائريها من الأدباء عن ظهر قلب، وحين غادرها إلى دار البقاء، استعصت على الجميع حتى خـَفَّ نـُواحـُها، وامتنعت أن تبوح بأسرارها لأحد من بعده، إلى أن جاء محمد البغوري مقتفيا خطاه، لا تمرُّ معه من مكان (فندق، زقاق، حانة، مكتبة، مقهى، حي، قصَبـَة، شارع، سور…) إلا ويستوقفك للحظات، كي يحدثك بحُبّ عن تاريخه وذاكرته وأهم الشخصيات التي مـَرَّت منه، دون أن ينسى أصغر التفاصيل.

لا يختلف اثنان على أن طنجة مدينة ساحرة؛ لكن وَاهمٌ من يعتقد أن سحرها يكمُن في إطلالاتها الرائعة على الأزرقين، حيث يلتقي المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط، في مشهد نادر قبالة “رأس سْبَارْطيل” قد لا يتكرر في العالم مرتين، ومن جهة الشمال على خليجها النصف- دائري الطويل أو مراقبة النوارس وعبور السُّفـن بمختلف أحجامها ومَهامها عبر مضيق جبل طارق من مقهى الحافة ملتقى المشاهير والنوارس والشعراء والحالمين بالعبور إلى الضفة الأخرى على بعد نظرة واحدة من إسبانيا، ومن جهة الشرق على امتداد لا زوردي وشواطئ فاتنة، ومن جهة الغرب على امتداد أزرق يتماوج مع لون رماله الذهبية.

جمال طنجة أيضا ليس في تعـَدُّد حاناتها أو كـُورنيشها الممتد على طول خليجها، ولا بعماراتها الزجاجية العالقة في السماء على غرار المدن العالمية الكبرى، ولا بأسماء شركاتها العملاقة التي حطت فيها مؤخرا، ولا بمقاهيها ومطاعمها الرديئة والراقية التي تعج بالفتيات المِلاح ليل- نهار، ولا بأموال باروناتها التي تعبر البحر المتوسط إلى الضفة الأخرى أو تجيء منها، ولا بفيلاتها الفخمة وقصورها المترامية على روابيها، ولا بالتسكع في ليلها الذي يبدأ مُبكرًا ولا ينتهي.. سحر طنجة وجمالها، إن شئنا وباختصار، يكمن في أهمية ثقافتها العالمية!.

على خطى شكري

لم تكـُن الجـَولة مـُعـَدٌّ لها سلفا، فقد جاءت تلقائية؛ لكن مـرّت بشكل مـُرَتب وسَلس.

كانت البداية من “مقهى باريس”، أعرق مقاهي طنجة وأقدمها، بعد أن أخذنا “كاسْ شـْبـْري” من الشاي المغربي بالنعناع الأخضر رفقة الشاعر علي الورياغلي. هناك ونحن جلوس سأكتشف بالصدفة، أنا الذي كنت أداوم على الجلوس في هذه المقهى بالذات لسنوات طويلة، أنها كانت ملاذا لكبار الكتاب والمفكرين من أمثال: محمد شكري، هنري ماتيس، محمد السرغيني، صمويل بيكيت، البيتلز، محمد خير الدين، بول بولز، إدريس الخوري، جين آور بولز، محمد زفزاف، وليامز تايمز، العربي اليعقوبي، سعدي يوسف وكل مشاهير الأدباء الذين مروا منها تركوا فيها بصماتهم، وكان لا يحلو لجان جنيه- Jean Genet أن يخط كتاباته إلا فيها، لتظل بذلك طنجة كمدينة محافظة على حياديتها، فهي للجميع منذ الحرب العالمية الثانية و”فيها كـُلشي” بتعبير المخرجة السينمائية فريدة بليزيد!.

فندق المنزه- المتحف

ونحن في طريقنا لنكمل ما تبقى من الجولة عبر السوق الكبير، عـَرَّجنا على فندق “المنزه” التاريخي، الذي يبدو فندقا عاديا من خلال واجهته البيضاء؛ لكنه يظهر غير ذلك حين تلج إلى أروقته الداخلية.. هناك فقط، ستعرف بأنه الفندق الوحيد الذي حافظ على طابعه القديم، إذ بإمكان الطلبة والطالبات حمل كتبهم وحواسبهم إليه قصد المطالعة، فهو يوفر لهم كل ما يتطلبونه من أجل أخذ نصيبهم من العلم والمعرفة والراحة دون قيد أو شرط، كل ما يتطلبه الأمر منهم هو أن يحترموا قانونه الداخلي، في وقت أصبحت فيه جميع الأمكنة تخاف من الكتاب وحامله، وتمنع فتحه فيها كليا تحت ذرائع مختلفة وحتى واهية أحيانا..

مـَرَّت منه هو الآخر أشهر شخصيات السياسة والموضة والرياضة والفن في العالم، نذكر منهم: فان دام، لويس أراغون، الممثلة الفرنسية بريجيت باردو، وارنر فاسبندر، برنارد بيرتلوتشي، تينسي ويليامز، الليدي تشرشل، إليزابيث تايلور، أنطوني كوين، ايرين باباس، ليبولد سيدار سنغور، صليبي غونزاليس، كونت باريس، كينزو، وأوليفير ستون، إيف سان لوران، فرانسيس فورد كوبولا، وصور كل هذه الشخصيات معلقة على الجدران المكسوة بالزليج المغربي الأصيل.

“سُوق بْـرَّا” و”سُوق الدّاخـل” وخطاب السلطان محمد الخامس

ونحن في طريقنا إلى “سوق الداخل” عبر “سوق بـْرَّا” أو “السوق البْـرَّاني”، لا بد أن يوقفك السي محمد البغوري في الساحة قليلا، ليحدثك عن خطاب السلطان محمد الخامس التاريخي ويشير بأصبعه إلى الأماكن التي جلس فيها مشاهير المرحلة من رجالات السياسة والمقاومة، وأهم التحولات التي طالت هذه الساحة منذ أن وَعـِيَها كطفل أو ما سمعه من أهاليها القدماء. في “سوق الداخل” لا بد أن تستوقفك “كافي سنطرال”(Café Central) الذي كان يرتاده محمد شكري كثيرا، لأخذ قسط من الاستراحة وتستمع للكنات السياح ولغاتهم باختلاف قومياتهم الأوروبية والأمريكية وحتى المَشرقية، وطابع عمارتهم التي تعرف بها طنجة كمدينة عالمية دون غيرها: العمارة الإيطالية جنبا إلى جنب مع نظيراتها الفرنسية، البرتغالية، اليهودية، اليونانية، الألمانية والبرتغالية، الإنجليزية، وهي فروقات لا يمكن للزائر العابر أن يعرفها بسهولة ويـُسر، لكن البغوري/ الخبير يشرح لك بالتفاصيل أهمية هذه الفروق وخصائصها من عمارة إلى أخرى، وهي فروق لا يمليها فن البناء ومهندسوه، بقدر ما ترجع إلى اختلافات قد تكون عميقة بين الثقافات المغربية- الأندلسية والأوروبية واليهودية بالأساس.

طنجة قلعة الزوايا

قرب “الجامع الكبير” المعروف تاريخيا في طنجة القديمة، يستوقفك مرة أخرى كي يحدثك عن أسماء العلماء والفقهاء والخطباء الذين تناوبوا عليه في حلقات الفكر، ومنها عبر “زنقة المتر” (اسم على مُسمى)، زقاق ذكرني بـدرب “كرنيز” في فاس البالي، حيث تظهر منه السماء فوقك على شكل خط مستقيم، لا يتجاوز عرضه المتر الواحد ولا يستطيع أن يمر منه أكثر من شخص.

عبر هذا الزقاق الضيق جدا، توجهنا إلى الجزء الغربي من طنجة العتيقة، عند وصولنا إلى “دار البارود” وجدنا هناك مجموعة كبيرة من الزوايا متعددة الحساسيات الدينية: الزاوية الكتانية، الريسونية، الصديقية، زاوية سيدي علي بن داوود، الحمدوشية، الفاسية، العيساوية، القادرية، التيجانية، زاوية سيدي الخمار الكنوني، ضريح سيدي أحمد بنعجيبة الحفيد.

مقهى “بـَابـَا”BABA العَجائبي و”بابُ البحر” البانورامي

قبل أن نصل إليه، كان يلزمنا المرور من حي “أمـْرَاح”، في هذا الحي سنعثر على أيقونة أخرى تناوب على زيارتها مجموعات كبيرة من مشاهير الأدب والفن والرياضة والسياسة على السواء، إنه “مقهى بابا” العجيب- الغريب، كان من ضمنهم الدبلوماسي الغاني وأمين عام الأمم المتحدة السابق كوفي عنان، وما زالت صور كل زواره من المشاهير مُعلقة بالأبيض والأسود أو بالألوان على جدران هذه المقهى، وهي مقهى عادية جدا في الحي القديم من الجهة الغربية لطنجة، الناس يجلسون فيه من مختلف الحساسيات والجنسيات: سياح أجانب، مغاربة، مشرقيون، نساء، رجال، شباب، كل رواده يعيشون عالمهم وراحتهم ويدردشون في صمت رهيب، من هنا عرفت أن سِـرَّ جمال هذه المقهى يكمن في نوعية زوارها!

عند “باب البحر” تسبقك إطلالة بانورامية على ملتقى البحرين (البحر والمحيط) وميناء طنجة الترفيهي، وفي عمق المنحدر يظهر الطريق الساحلي الجديد ملتفا على الميناء والمدينة معا كأفعى خرافي خرج لتوه من عمق المحيط، من هناك لا بد من المرور على بعض الأماكن التي تؤرخ لمحطات تاريخية قديمة في طنجة؛ منها “السجن القديم” في عهد السلطان مولاي حفيظ وربما قبل ذلك التاريخ بكثير، ومتحف “القصبة” الذي يضم قطعا نادرة من فترات تاريخية متباينة، ثم “مسجد القصبة” الذي بناه الوالي بأمر من السلطان المولى إسماعيل بعد الجلاء الإنجليزي عن المدينة، وهو معلمة عمرانية ودينية بصومعته ثمانية الأضلاع، وأنت أيضا في غرب المدينة القديمة دائما، لا يمكنك الاستمتاع بنظرة شاملة من الأعلى على المدينة القديمة بقبابها وصوامعها وبحرها من جهة الشمال والشرق والمدينة الجديدة بعماراتها وحدائقها، إلا بإطلالة بانورامية من الطابق العلوي في “دار نور”، وهي دار ضيافة كانت في ملكية فنان فرنسي، تتوفر هي أيضا على صور ولوحات تشكيلية وقطع فنية نادرة.

في حضرة صاحب “النبوغ المغربي”

قبل التفكير في الخروج من “حي القصبة” بالحي القديم، لا بد من المرور على الدار التي كان يقيم فيها صاحب “النبوغ المغربي” العلامة عبد الله كنون، والتي أصبحت من حسن حظها مركزا ثقافيا، في وقت تحولت فيه أغلب دور الزعماء والعلماء في المدن المغربية التاريخية إلى دور للضيافة!.

من هناك، ستبدأ رحلة ثقافية أخرى عبر شارع إيطاليا وسينما الريف، التي ما زالت تعرض أفلامها السينمائية، فيما أصبحت سينما الكازار، بالرغم من تاريخها الفني الطويل، مجرد بناية عاطلة عن العمل وسلسلة من الذكريات، هناك تحديدا ستظهر وبشكل جلي ملامح العمارة الغربية المتباينة التي تحدثنا عنها في البداية: الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، اليهودية، البرتغالية، الإنجليزية، الإسبانية، العربية، المغربية، الأندلسية.

وستنتهي الرحلة الطنجية في المدينة القديمة ذاتها على مشارف المدينة الجديدة، بعد أن اطلعنا على شيء من معالم طنجة القديمة، وسط انشغالات الناس في الأسواق بهمومهم اليومية، ولما تنتهي رحلتنا بعد في عوالم طنجة المتعددة بعمارتها وتاريخها وحاضرها وماضيها الاستثنائي، سنحط رحالنا أخيرا في مقهى شعبي بساحة 9 أبريل المعروفة محليا بـ”سـُوق بْـرَّا”، وأمامنا أكواب من الـ”أتـَاي” المغربي الأصيل بالنعناع الأخضر، الذي تخصصت فيه مـُدن الشمال المغربي على وجه الخصوص، ننصت إلى “عظامنا” وإلى نبض قلوبنا وحكايات رجال مسنين عن هموم المدينة وهمومهم أو شيئا من تاريخ زرناه وشاهدناه بأم العين.

كانت الرحلة متعبة جدا صعودا وهبوطا، بين دروب طنجة وأزقتها الضيقة؛ لكنها كانت من أجمل الرحلات التي قمت بها في طنجة، التي لم أكن أعرف عنها ومنها إلا القليل!.

رأي واحد حول “طـنجة القـديمة .. أسرارها و عوالم غامضة و ثقافة عالمية”

  1. صراحة، سكنتني طنجة منذ صباي في بداية الستينبات حيث كنت اتردد اليها في كل اذلي واقضي الصبف فيها كحل شباب القصز الكبير المغرمين بسحرها… ولكن استمتاعي برونق ورقي وفكر هذه الجولة المقروءة كانت له نكهته الخاصة ةمتعته المتميزة واحسايه العميق… لانها جولة عالمة وواعية واستكشابية واسترجاعية ومرجعبة ومراجعاتية… كمن كان ياكل لياكل او ليشبع ومرة تعرف على فيتامينات كل الخضر والفواكه فاصبح ياكل ويعي فوائد ما ياكل…
    فلربما لدي منظوري الخا

    رد

أضف تعليق