بعد تعيين السيد شكيب بنموسى مكلفا بلجنة إعداد النموذج التنموي الجديد، بدأت تُطرح الكثير من الأسئلة حول العلاقة بين هذه اللجنة والحكومة، بين الخلاصات المنتظرة للنموذج التنموي والبرنامج الحكومي، رغم أن الخطاب الملكي الذي تطرق لهذه اللجنة أكد أنها لن تكون حكومة داخل الحكومة.
إذا رجعنا إلى التاريخ الاقتصادي للمملكة نجد أنها منذ الاستقلال كانت تنهج إستراتيجية المخططات الخماسية؛ لكن بعد تولي الملك محمد السادس سدة العرش، عرفت نهجا جديدا في التدبير الاقتصادي مبنيا على توجهات إستراتيجية على المدى البعيد بنفس تنموي وبهدف انتقال البلاد إلى نادي الدول المتقدمة؛ فكان النموذج التنموي الأول قائما على أساس تحديث القطاعات الأساسية للدولة وعصرنة الحياة في المدن بإعادة هيكلة البنيات التحتية ونهج سياسة جديدة عنوانها العريض “الأوراش الكبرى”. خلال هذه الفترة، كانت البرامج الحكومية تأخذ النموذج التنموي كخارطة طريق بدل المخططات الخماسية، كما كان عليه الحال في القرن الماضي، وكانت الحكومات المتعاقبة تحدد الأولويات وفق الميزانية والموارد المتاحة. وفي ما يخص الأوراش الكبرى مثلا، نجد أن مدينة مراكش كانت المدينة الأولى التي استفادت من هذا المخطط التنموي، إذ عرفت قفزة كبرى لتصبح مدينة عالمية. ثم بعد مراكش استفادت من هذا المخطط التنموي مدينة طنجة، ثم الدار البيضاء، وحاليا أتى دور مدينة أكادير كما جاء في الخطاب الملكي الأخير.
جميع التحليلات تُجمع على أن النموذج التنموي المغربي استنفد أغراضه وبلغ مداه، بل أصبح عاجزا عن الإجابة عن التحديات التي تواجهها البلاد، وهي البطالة والتعليم والصحة والحكامة الجيدة. وفي غياب إستراتيجية التنمية في البلاد، ستجد الحكومة صعوبة في تحديد سياسات البلاد العمومية، وستعاني من غياب رؤية بعيدة المدى، ومن خارطة طريق توجه بوصلة العمل الحكومي. فإذا كان الهم الرئيسي للحكومات خلال فترة المخططات الخماسية (فترة القرن الماضي) هو التوازنات الماكرو اقتصادية، من تحكم في ميزان الأداءات ونسبة التضخم والميزان التجاري والعجز المالي، فإن الفترة الحالية تتميز بسمات اقتصادية مغايرة، كتقليص نسبة الفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، خاصة بين المدن والقرى، ومحاربة الهشاشة والاقتصاد الغير مهيكل، إلى جانب معضلة البطالة وتدني مستوى التعليم والخدمات الصحية. هذه التحديات تتطلب إعداد مخطط تنموي بعيد المدى يخص جيلا بكامله، أي رؤية للمغرب بعد على الأقل 20 سنة..
هذه الرؤية التي ستنكب عليها لجنة النموذج التنموي ستشكل خارطة طريق للحكومات المتعاقبة في إعداد برامجها والميزانيات السنوية، إذ إن البرامج المتضمنة في النموذج التنموي التي تتطلب سنوات عديدة لإنجازها ستكون الحكومة ملزمة بتخصيص ميزانية خاصة لها في كل قانون مالي.
لذلك نقول إنه لا تعارض بين عمل الحكومة واللجنة المكلفة بالنموذج التنموي، وإنما العلاقة التي تحكم الإثنين هي علاقة تكامل من أجل عمل حكومي مستمر ودائم.
تبقى في الأخير الإشارة إلى أن تعيين مهندس متمرس في القطاع العام وفي القطاع الخاص له أكثر من دلالة؛ فالتحديات الاقتصادية للألفية الثالثة ليست هي تحديات القرن الماضي. في الوقت الراهن زادت قوة المنافسة والعالم يتحول نحو مجتمع المعرفة، والتنمية تعتمد بالأساس على القدرة على تحويل الأفكار إلى برنامج له قيمة مضافة، وعلى القدرة على خلق الثروة للزيادة في الناتج الداخلي الخام، لتكون الدولة ذات موارد تستطيع من خلالها معالجة مشكل البطالة والفقر والنهوض بالتعليم والصحة. هذه التحديات التي تجد معالجتها في القدرة على خلق الثروة لتوزيعها في ما بعد بين فئات المجتمع هي من صلب الفكر الهندسي؛ فالمهندس يخلق الثروة والسياسي يوزعها.
*باحث في التنمية وتكنولوجيا الإعلام والتواصل.